رحم الله الوالد
بقلم : د: فهد بن ناصر الجديد
في يوم الأحد الخامس من شهر ربيع الأول لعام 1438هـ٬ وبعد صلاة المغرب ٬ اتصلت بي إحدى أخواتي على غير العادة٬ وقالت لي : تعال إلى بيت الوالد
الآن ضروري. فركبت السيارة واتجهت إلى بيت الولد٬ وبعد دقائق اتصل بي أحد إخواني وهو يبكي٬ فعلمت أن الوالد توفي٬ ولما وصلت تأكد الأمر لدي٬
فالحمد
على قضاء الله وقدره.
عندما أتحدث عن الوالد٬ أبي إبراهيم٬ ناصر بن إبراهيم الجديد – رحمه الله – فإني أتحدث عن شخصية من أعظم الشخصيات المكافحة التي شاهدتها في حياتي.
فقد مات والده – رحمه الله – وكان عمره أربعة أعوام٬ ثم تزوجت والدته – رحمها الله –. كان للوالد أخوان كبيران من أبيه فعاش هو وإخوته الصغار عندهما٬
وكانت والدة أخوية لأبيه من أفضل النساء عطفا على الأيتام٬ كان والدي ووالدتي يترحمون عليها طيلة عمرهما.
بعد سن البلوغ طلب الوالد – رحمه الله – من أخيه الأكبر أن يعمل في قصر أحد الأمراء٬ فعمل عند الملك عبدالعزيز – رحمه الله . أخبرني والدي ذات مرة
أنه صب القهوة للشريف عبدالله بن الحسين ملك الأردن٬ ولما رجعت إلى كتب التاريخ وجدت أن زيارة الملك عبدالله للرياض كانت في شهر شعبان من عام
1367هـ٬وكان عمر الوالد حينها تسعة عشر عاما.
انتقل والدي رحمه الله – للعمل في التجارة في سوق الهدم يبيع الملابس٬ وذات مرة جاءه رجل من إحدى الأسرة المعروفة بالدين فاشترى من والدي معطف
"الكوت" وقبل الشراء لبس المعطف وتأكد من مقاسه ثم دفع المبلغ وذهب ولما جاء من الغد عاد الرجل ومعه المعطف لوالدي وطلب إرجاع المبلغ فرفض
والدي٬ وقال له : تلبس الكوت وتجربه وتدفع المبلغ ثم بعد يوم ترده!. فقال الرجل : إذا مارجعت الكوت أبوي سيضربني. فقال الوالد : إذا كان الأمر كذلك
فهات الكوت وخذ فلوسك.
عمل والدي في مستشفى الناصرية أمين مستودع لفترة من الزمن ثم عاد ليعمل مرة أخرى في التجارة في العقار قبل بداية الطفرة الأولى.
جاءت الطفرة في منتصف التسعينات الهجرية وكان الوالد من أهل العقار المشهورين. فانتقل – بفضل الله من السكن في بيت مستأجر إلى بيت ملك في عام
1397هـ.
ُحرم والدي من طلب العلم في طفولته بسبب ظروفه الاجتماعية فعوضه الله في أبنائه وبناته ممن حصلوا على الشهادات الجامعية والعليا وكذلك عوضه الله في
أن اشترى مدارس أهلية للبنات من مرحلة الإبتدائي إلى المرحلة الثانوية وبقيت ملك للوالد قرابة ربع قرن. وعندما ذهب إلى الرئاسة العامة لتعليم البنات ليحصل
الرخصة٬ قال له المسؤولون : أحضر شهادة تزكية لك٬ فذهب إلى الرئيس العام لتعليم البنات الشيخ / ناصر الراشد رحمه الله – وقال له : طلبوا مني تزكية.
فضرب الشيخ ناصر الراشد على صدره وقال : أنا أزكيك. فوقع على المعاملة مباشرة. وكان الشيخ ناصر الراشد شديد في العمل لا يجامل أحد ولكن الوالد
رحمه الله – جاور الشيخ ناصر في الحي الواقع جنوب وزارة الإعلام٬ وعرف عن والدي الصفات الحميدة. فوافق على التزكية مباشرة دون تردد.
. قال عنه إمام الجامع الذي يصلي فيه٬ جامع رياض الصالحين
كان الوالد رحمه الله – من المحافظين على أداء الصلاة في جماعة٬ يذهب إلى المسجد مبكراً
بحي النخيل : (كان أحد أعمدة المسجد) ا.هـ. والمؤذن ماينتهي من الأذان إلا وتجد الوالد في الصف الأول خلف الإمام. يجلس في البيت قبل الأذان ينظر إلى
الساعة ويتحدث مع من بجانبه ويقول اليوم : الأذان يتقدم عن أمس بدقيقة وغدا يزيد دقيقة. وهكذا ديدنه الحديث عن الصلاة ومواقيتها.
إذا أتيت إلى بيت الوالد رحمه الله – وصادف وقت الأذان &&وهممت بالدخول وشاهدت الوالد خارجا من البيت متجها إلى المسجد لا يمكن أن يتوقف كي
أسلم عليه٬ يؤشر بيده٬ لأن في التوقف بضع ثواني سوف يعطله عن الذهاب إلى المسجد.
سافر ذات مرة من صاحبه فوزان السليمان رحمهما الله – ولما عادا٬ قال فوزان عن الوالد : أبو إبراهيم في صلاة منذ أن سافرنا إلى أن عدنا.
قبل 30 عام٬ صليت بجوار الوالد رحمه الله – فكان الإمام يقرأ سورة ق٬ وكان للوالد صوت خفيف من البكاء ثم يشهق من التأثر بالأيات مع أن الوالد لا
يعرف اسم السورة٬ بدليل أن الوالد ذهب إلى الإمام بعد صلاة العصر وقال له : ياليتك تعيد السورة التي قرأتها في صلاة الفجر كل مابين فترة وأخرى.
. وعندما ثقل عن السفر تأمل لعدم
في مكة المكرمة٬ واستمر أكثر من 30 عاماً
أما الصيام فقد اعتاد الوالد رحمه الله – أن يصوم شهر رمضان كاملاً
استطاعته للسفر لمكة.
وأما الصدقات فقد كان كريماً على الضعفاء٬ يتصدق كثيراً ويواسي الفقراء والمحتاجين. إذا اقترض أحد منه مالاً وعلم أنه في حاجة لا يطالب الشخص بقضاء
الدين حتى يعيد المقترض المال بنفسه.
قبل أشهر قليلة جاءنا أحد كبار القوم وسأل عن الوالد٬ وقال لنا : أني اقترضت من الوالد سبعة الأف ریال يوم كان يبيع في سوق الهدم٬ وأعاد المبلغ٬ ولما حسبنا
.
تقريباً
السنوات وجدنا أنها 60 عاماً
والوالد رحمه الله – حج عدة مرات وقد تشرفت أن كنت برفقته في آخر حجة حجها٬ وكان ذلك في عام 1419هـ٬ وكان عمره يومذاك 71 عاماً وكان
رحمه الله – نشيطا فقد استطاع بفضل الله أن يطوف طواف الوداع في سطح الحرم٬ ولما قدرت المسافة وجدتها 11 كيلو متر تقريباً٬ ثم بعدها أصيب يتنمل
في قدمه.
وأما في صفاته الشخصية فقد كان الوالد رحمه الله – مضرب المثل في الكرم. وقد كنت أكثر أخوتي من تشرف باستقبال ضيوف الوالد وصب القهوة والشاي
لهما٬ فأنا الوحيد من بين أخوتي من كانت دراسته في الرياض بجوار الوالد. مرت سنوات كثيرة قلما يمر شهرواحد إلا وللوالد وليمة للضيوف٬ يدعو أقابه
وجيرانه ضمن في التعامل مع أبنائه٬ يريد منا إنجاز الأمور بنسبة كاملة دون أي نقص. وأما مع الناس إذا تخاصم
ومن صفاته الشخصية رحمه الله – أنه كان شديداً صارماً
الوالد رحمه الله – مع أحد من الناس لا يخبر أبناءه بالخصومة حتى لا يكرهنا لخصمه فتجد الواحد منا يقابل خصم الوالد ويصافحه لأنه لا يدري ماجرى
بينهما فيعرف الخصم أن الوالد لم يخبر أبنائه بالخصومة ثم يتضح لنا بعد سنوات أنه كانت خصومة مع ذاك الرجل.
قبل وفاته بستة أشهر لم يتمكن الوالد رحمه الله – من الصلاة في المسجد فصار يصلي في البيت إلى أن غيبه الموت.
إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا أبا إبراهيم لمحزونون. اللهم أغفر لوالدي وتغمده بواسع رحمتك٬ وأسكنه الفردوس
الأعلى. وإنا
وإنا إليه راجعون.